تحتدم في البلاد معركة عنيفة وطريفة في آن. إنها معركة صوغ قانون جديد للانتخابات وإقراره قبل انتهاء ولاية مجلس النواب في العشرين من الشهر الحالي. عنفُ المعركة مردُّه تضاربُ مصالح أركان الشبكة الحاكمة وأهوائهم ما يضع الدولة والبلاد خلال مهلةٍ لا تزيد عن 15 يوماً على حافة هاوية فراغ مروّع في السلطة التشريعية سينسحب بمخاطره على بقية السلطات والمؤسسات والقطاعات العامة والخاصة.
طرافةُ المعركة مردّها لجوء بعض «أبطالها» إلى محاولة إمرار المزيد من الإجراءات و«الضمانات» الطائفية في سياق اعتماد نظام لنسبيةٍ مشوَّهة وطائفية مقنّعة من جهة، ومن جهة أخرى الى إفصاح بطل آخر من أبطالها عن رغبةٍ جامحة في أن يكون «قانون الانتخابات وما بعده موضوع البحث الرئيسي». وعندما سُئل الى أيّ مدى تعنيه عبارة «ما بعده»، أجاب: «إلى خمسين سنة»!
تبدو هذه «الطموحات» مجرد صدى بسيط لطموح أكبر وأخطر هو ما نُسب الى أحد أركان الشبكة الحاكمة من قولةٍ عصماء أسرّها لأنصاره مفادها أنّ ما سيحققه من «ضمانات» لجماعته المذهبية سيجعلهم ينسون، إزاء تفوّقه على بشير الجميّل، ما كان تركه هذا الأخير من تراث في هذا المضمار»!
إذ تتبدّى بوضوح، وأحياناً بفجاجة صارخة، نوازع معظم أركان الشبكة الحاكمة ومساعديهم النافذين الى الإمعان في التمسك بتقاليد الطائفية السياسية ومتطلباتها، يتضح في المقابل قصورهم في فهم أسباب ما انتهت اليه تجربة أهل النظام السياسي الطوائفي من كوارث وحروب أهلية وتفقير وتهجير على مدى عمره الذي ناهز المئة العام، والإيغال تالياً في اعتماد المزيد من الشيء نفسه في كلّ مناحي التفكير والتدبير.
خلافاً للطموحات المجنونة لبعض أركان الشبكة الحاكمة، نصبو الى إقناع بعضها الآخر القادر على التعقّل والاستفادة من دروس التجارب المرّة للعهود السابقة وما انتهت إليه إدارتها الفاشلة لنظام طوائفي مغلق وفاسد ومحكوم بإعادة إنتاج نفسه بلا هوادة. كما نصبو الى إقناع القوى الوطنية والتقدمية الحيّة بدرس تجربتها السياسية والنضالية وإجراء تقويم ونقد صارم لما انطوت عليه من أخطاء وخطايا لعلّ أخطرها مثابرتها، بأساليب عملها القاصرة، على ان تلعب لعبة أهل النظام وأن تشاركهم، ربما من حيث لم تشأ أو ترغب، في إعادة إنتاجه على مدى عهود وأجيال.
لا فائدة من إعادة تكرار مساوئ الطائفية السياسية وكوارثها وإرثها الثقيل المانع للتطور والتقدم. فلنحاول، إذاً، الاتعاظ ببعض جوانب تجربة سياسية نادرة وناجحة خاضتها القوى الوطنية والتقدّمية في سبعينيات القرن الماضي وبدرس إمكانية تطويرها واعتمادها في سياق نهج وطني واجتماعي عصري.
ما أشير إليه وأعنيه هو تجربة هذه القوى السياسية التقدمية التي عُرفت باسم «الحركة الوطنية» بقيادة كمال جنبلاط وأطلقت برنامجاً سياسياً مرحلياً للإصلاح الديمقراطي، واستطاعت، وسط ظروف داخلية معقّدة وتدخلات خارجية مكشوفة، من الاستحواذ على تأييد غالبية اللبنانيين بدليل تمكّنها في ذروة نشاطها العام 1976 من إخراج نحو 80 في المئة من مناطق البلاد، أرضاً وشعباً، من سلطة أهل النظام الطوائفي الفاسد.
ما كانت الحركة الوطنية لتتمكّن من تحقيق ما حققته من نتائج لولا عوامل ثلاثة:
أولها، اقتصار تركيبتها على أحزاب وقوى تقدمية لاطائفية بل علمانية وابتعادها عن اعتماد نهج وأسلوب طائفي أو مذهبي في عملها السياسي وفي تعاطيها مع القوى المعادية او المنافسة.
ثانيها، اعتمادُ برنامج إصلاح سياسي متكامل يؤمّن العيش المشترك، وتجاوز نواقص النظام السياسي المتهرّئ، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس علمية وديمقراطية، ويكفل إطلاق ثورة إنمائية شاملة ومتوازنة.
ثالثها، التفاعل والتعاون مع قوى التحرّر والديمقراطية في عالم العرب ضدّ الاستعمار والصهيونية والتحالف مع أجنحتها الأكثر فعالية في مواجهة «إسرائيل».
غير أنّ ثمة عاملاً إضافياً أسهم الى حدٍّ بعيد في إنجاح تجربة الحركة الوطنية هو شخصية قائدها كمال جنبلاط الذي اتسم بمزايا فكرية وسياسية وقيادية متعدّدة ليس أقلها نهجه الوطني اللاطائفي، واستقلاله القاطع عن القوى الخارجية، ونزاهته الساطعة. هذه المزايا المتجسّدة في تفكيره وتدبيره وتطلّعاته مكّنته من امتلاك شعبية عابرة للطوائف والجماعات والفئات التي يزخر بها المجتمع اللبناني التعدّدي قلّما حظي بها قائد سياسي لبناني قبله أو بعده. ولعلّ ما نُسب الى العميد ريمون اده من مقولة لافتة يُعطي صورة واقعية عن مسار كمال جنبلاط العملي: «استطاع بنهجه الوطني والإصلاحي اللاطائفي أن يكبّر حجم طائفته سياسياً بجعل جمهوره عابراً للطوائف ومكوّناً منها جميعاً».
تفتقر القوى الوطنية والتقدمية حاليّاً الى قائد بحجم كمال جنبلاط ومزاياه، لكنها لا تفتقر الى قياديين وطنيين تقدميين ومستنيرين قادرين، بالتزامهم الوطني وجدّيتهم وتجربتهم النضالية الواعدة برؤية متكاملة للتحديات السياسية والاجتماعية الراهنة والماثلة، على ابتكار صيغة جبهوية متقدمة تتولى وتستطيع الوفاء بالهدف الأسمى وهو التأسيس للانتقال بالبلاد من النظام الطوائفي الكونفدرالي القائم الى الدولة المدنية الديمقراطية.
غير أنّ وضوح الهدف الاستراتيجي يتطلّب، بالضرورة، اعتماد نهج وأساليب في السياسة والنضال مغايرين لما جرى ويجري اعتماده في الوقت الحاضر. ولعلنا نقترح، في هذا المجال، ونضيف بعضاً من الأفكار والرؤى:
أولاً، اغتنام فرصة انشغال القوى الخارجية، الإقليمية والدولية، بنزاعاتها ومشاكلها وانحسار قدرتها، نسبياً، عن التدخل مباشرةً وعلانية في شؤوننا الداخلية، بغية تفعيل وتعظيم نضالنا السياسي والاجتماعي ضدّ أهل النظام الطوائفي الفاسد لإكراههم على تقديم تنازلات محسوسة لمصلحة قوى الديمقراطية والتقدّم والتحرّر والمقاومة، ولا سيما على صعيد قانون الانتخاب.
ثانياً، إبقاء الصراع متأجّجاً ومستمرّاً لإنجاز قانونٍ للانتخاب على أساس النسبية الكاملة في دائرة وطنية واحدة خارج القيد الطائفي وبدءاً بتطبيق المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلس للنواب على أساس وطني لاطائفي، وآخر للشيوخ على أساس طائفي. كما يقتضي عدم مهادنة أهل الشبكة الحاكمة في سعيهم إلى اعتماد قانون مجوّف ومقنّع للانتخاب يحافظ على جوهر النظام الأكثري الطائفي.
ثالثاً، اعتماد أساليب مبتكرة في العصيان المدني السلمي، ليس أقلّها الضغط مباشرةً ومداورةً على أهل السلطة لتعطيل قدرتهم على الاستمرار في إدارة النظام الطوائفي الفاسد وإرغامهم على الاستجابة للمطالب الإصلاحية ولا سيما تطبيق المادة 22 من الدستور.
رابعاً، إقامة مجالس شعبية موازية لإدارات السلطة ومؤسساتها للقيام بمهام المراقبة والنقد والتصحيح وفضح الصفقات والمشروعات الرامية إلى انتهاك حقوق الناس وإهدار المال العام.
خامساً، إقامة مؤتمر وطني عام لتفعيل دور قوى الشعب في عملية التغيير والإصلاح ومواكبة نضال الحركة الوطنية في زمانها المعاصر وتوليد قيادات جديدة.
هذا غيض من فيض…